من سجن عكّا، طلعت أغنية
قصة نوح إبراهيم، شاعر ثورة 1936
ممنوعاً في حكم البريطانيين، ومخلّداً في ذكرى الجماهير، جسّد شعر نوح إبراهيم روح المقاومة الفلسطينية في الثلاثينيات.
كان العام عام 1930. عصف الكساد العظيم بحياة الكثيرين، ممتداً من أستراليا إلى مصر. في القاهرة، بدأت الأسماع تنتبه لصوت أم كلثوم الأخّاذ، وهي تتحول من ابنة إمام فلاح لا يعرفها أحد، إلى نجمة أسطورية سرعان ما أسرتْ جماهير العرب. وفي سوريا، أدخل الفرنسيون دستوراً جديداً ليطبقوا قبضتهم على الحركة الوطنية السورية، فيما استمرت الإضرابات والمقاطعات والعصيان المدني في رسم معالم الحياة في دمشق.
في العام نفسه، في أحد صباحات حزيران في مدينة عكّا الفلسطينية الساحلية، أعدم البريطانيون ثلاثة شبّان مسلحين، هم محمد جمجوم، وعطا الزير، وفؤاد حجازي، لدورهم في هبّة البراق ضد قوات الانتداب البريطانية، في ما بات يعرف باسم الثلاثاء الحمراء.بحسب المؤرخة رنا بركات، سعت تلك الإعدامات إلى زرع الخوف في قلوب الفلسطينيين العرب، وتكميم حركتهم الاحتجاجية المتعاظمة. لكن بدلاً من أن تخضِعهم، قدّمت تلك الإعدامات لفلسطين أول شهدائها المعروفين، المخلّدين في الشعر والأغاني، وفي اللقاءات العامة. في رسالة يقال إن فؤاد حجازي كتبها قبيل إعدامه، وتم تداولها وطباعتها، يقول حجازي مخاطباً الجماهير:
“أنا لست أخاً أو ابناً لكم فحسب، بل إنني ابن وأخ للأمة كلها. لا تبكوا أو تنتحبوا من بعدي… عليكم أن تفرحوا وتغنّوا… إن موتي مدعاة للاحتفال… فالأمة التي تقف في وجه بؤسها وتقاتل، أمةٌ لن تموت”.
فؤاد حجازي قبيل إعدامه، 1930.
كانت الثلاثاء الحمراء كذلك اسماً لقصيدة خطّها الشاعر الشهير إبراهيم طوقان في ذكرى هؤلاء الشهداء، بلغة فصحى بليغة، تلقفتها الطبقات المتعلمة. لكن رغم أن طوقان كان أبرز شعراء فلسطين في تلك الفترة، لم تكن كلماته تلك ما خُلّد عن الواقعة وما زال يُغنّى حتى اليوم، بل كلمات شاعر كاد أن يُنسى؛ ثائرٌ شاب مدوّر العينين، يدعى نوح إبراهيم، كتب الشعر كما يحكيه الناس العاديون.
عاش نوح إبراهيم، الذي ولد في حيفا عام 1913، مع أسرته بدخل شحيح، بعد أن كان والده قد قُتل في طفولته.4بعد أن أنهى تدريبه في مدرسة مهنية في القدس في سن السادسة عشرة، عاد إلى حيفا ليعمل في مطبعة مصنع تبغ.5وعلى عكس نخب فلسطين الأدبية في ذلك الحين، لم يكتب إبراهيم سوى الزجل. لا يمكن أبداً تحديد النسخ “الأصلية” من قصائد نوح إبراهيم، فقصائده تكون حين تُؤدى، وتتشكل وعلى لسان من يتلوها، لتتغير ويضاف إليها أبيات وتحذف أخرى خلال الأداء. إنها قصائد تعيش لحظتها، ويصعب ربطها بظرف أو مكان، تماماً كصاحبها الذي عاش وعمل -في حياته القصيرة- في فلسطين والعراق والبحرين، وسافر في أرجاء العالم العربي.
في ذكرى حجازي وجمجوم والزير، كتب إبراهيم:
نادى المنادي يا ناس إضرابِ،
يوم الثلاثة شنق الشبابِ،
أهل الشجاعة عطا وفؤادِ،
ما يهابوا الردى ولا المنونا
منذ الثلاثينيات، أصبحت هذه القصيدة، “من سجن عكّا”، أغنية شعبية واسعة الانتشار. أشهر نسخها كانت تلك التي سجّلتها في الثمانينيات فرقة العاشقين، التي جابت حفلاتها العالم العربي، من فلسطين إلى الجزائر واليمن.
ورغم أنه عُرف بكونه شاعر الثورة الفلسطينية، كان لنوح إبراهيم جانب أقل جدية. في إحدى قصائده، يلعن الشيطان الذي زيّن له إهدار كامل راتبه على القمار والكونياك، وعلى راقصة ممتلئة قضت على تسع زجاجات من الويسكي في جلسة واحدة.
من الصعب أن نتخيّل إن إبراهيم كان في الوقت نفسه تلميذاً مقرباً من الزعيم التاريخي المناضل ضد الصهيونية، الشيخ عز الدين القسّام، وهو الرجل نفسه الذي حالما سمع بأن ثورة ضد البريطانيين والصهاينة قد قامت، ترك عمله في البحرين وعاد إلى فلسطين ليكون جزءاً من تلك الثورة.
عام 1937، دخل نوح إبراهيم سجن عكّا الذي كان قد غنّى لشهدائه، وقضى فيه خمسة أشهر. هناك، ذاع صيته بكتابة قصائد للأسرى وتلاوتها عليهم. قصيدة “السيد بايلي” -أبرز أعماله في تلك الفترة- صارت نشيداً وطنياً للأسرى السياسيين والأسيرات، خلال سنوات الانتداب البريطاني.
عقب إطلاق سراحه، انضم إبراهيم إلى رفاقه في الثورة، دون أن ينقطع عن كتابة الزجل، وباتت شعبيته واسعة إلى الحد الذي دفع إلى الرقابة البريطانية على الصحافة إلى منع نشر قصائده:
”وفق صلاحياتي كرقيب على الصحافة، واستناداً إلى قانون الطوارئ، أحذر، أنا أوين تويدي، من طباعة أو نشر الكتاب الذي يحتوي على قصائد نوح إبراهيم، الذي طُبع خارج فلسطين، والمعروف بـ”مجموعة أغاني نوح إبراهيم”، سواءً أطُبع أو نُشر علانية أو في الخفاء”.
لم يُكتب لشهرة نوح إبراهيم أن تدوم سوى أربع سنوات. ففي عام 1938، استشهد في أوج شهرته في معركة غير متكافئة مع البريطانيين في الجليل.لقد جسّدت وفاته روح التضحية التي مدحها في قصائده. كانت هذه الأصالة التحديد ما جعله شخصاً آسراً. فهو لم يكن مجرد شاعر، بل كان شاهداً وشهيداً.
قصة نوح إبراهيم، شاعر ثورة 1936
ممنوعاً في حكم البريطانيين، ومخلّداً في ذكرى الجماهير، جسّد شعر نوح إبراهيم روح المقاومة الفلسطينية في الثلاثينيات.
كان العام عام 1930. عصف الكساد العظيم بحياة الكثيرين، ممتداً من أستراليا إلى مصر. في القاهرة، بدأت الأسماع تنتبه لصوت أم كلثوم الأخّاذ، وهي تتحول من ابنة إمام فلاح لا يعرفها أحد، إلى نجمة أسطورية سرعان ما أسرتْ جماهير العرب. وفي سوريا، أدخل الفرنسيون دستوراً جديداً ليطبقوا قبضتهم على الحركة الوطنية السورية، فيما استمرت الإضرابات والمقاطعات والعصيان المدني في رسم معالم الحياة في دمشق.
في العام نفسه، في أحد صباحات حزيران في مدينة عكّا الفلسطينية الساحلية، أعدم البريطانيون ثلاثة شبّان مسلحين، هم محمد جمجوم، وعطا الزير، وفؤاد حجازي، لدورهم في هبّة البراق ضد قوات الانتداب البريطانية، في ما بات يعرف باسم الثلاثاء الحمراء.بحسب المؤرخة رنا بركات، سعت تلك الإعدامات إلى زرع الخوف في قلوب الفلسطينيين العرب، وتكميم حركتهم الاحتجاجية المتعاظمة. لكن بدلاً من أن تخضِعهم، قدّمت تلك الإعدامات لفلسطين أول شهدائها المعروفين، المخلّدين في الشعر والأغاني، وفي اللقاءات العامة. في رسالة يقال إن فؤاد حجازي كتبها قبيل إعدامه، وتم تداولها وطباعتها، يقول حجازي مخاطباً الجماهير:
“أنا لست أخاً أو ابناً لكم فحسب، بل إنني ابن وأخ للأمة كلها. لا تبكوا أو تنتحبوا من بعدي… عليكم أن تفرحوا وتغنّوا… إن موتي مدعاة للاحتفال… فالأمة التي تقف في وجه بؤسها وتقاتل، أمةٌ لن تموت”.
فؤاد حجازي قبيل إعدامه، 1930.
كانت الثلاثاء الحمراء كذلك اسماً لقصيدة خطّها الشاعر الشهير إبراهيم طوقان في ذكرى هؤلاء الشهداء، بلغة فصحى بليغة، تلقفتها الطبقات المتعلمة. لكن رغم أن طوقان كان أبرز شعراء فلسطين في تلك الفترة، لم تكن كلماته تلك ما خُلّد عن الواقعة وما زال يُغنّى حتى اليوم، بل كلمات شاعر كاد أن يُنسى؛ ثائرٌ شاب مدوّر العينين، يدعى نوح إبراهيم، كتب الشعر كما يحكيه الناس العاديون.
عاش نوح إبراهيم، الذي ولد في حيفا عام 1913، مع أسرته بدخل شحيح، بعد أن كان والده قد قُتل في طفولته.4بعد أن أنهى تدريبه في مدرسة مهنية في القدس في سن السادسة عشرة، عاد إلى حيفا ليعمل في مطبعة مصنع تبغ.5وعلى عكس نخب فلسطين الأدبية في ذلك الحين، لم يكتب إبراهيم سوى الزجل. لا يمكن أبداً تحديد النسخ “الأصلية” من قصائد نوح إبراهيم، فقصائده تكون حين تُؤدى، وتتشكل وعلى لسان من يتلوها، لتتغير ويضاف إليها أبيات وتحذف أخرى خلال الأداء. إنها قصائد تعيش لحظتها، ويصعب ربطها بظرف أو مكان، تماماً كصاحبها الذي عاش وعمل -في حياته القصيرة- في فلسطين والعراق والبحرين، وسافر في أرجاء العالم العربي.
في ذكرى حجازي وجمجوم والزير، كتب إبراهيم:
نادى المنادي يا ناس إضرابِ،
يوم الثلاثة شنق الشبابِ،
أهل الشجاعة عطا وفؤادِ،
ما يهابوا الردى ولا المنونا
منذ الثلاثينيات، أصبحت هذه القصيدة، “من سجن عكّا”، أغنية شعبية واسعة الانتشار. أشهر نسخها كانت تلك التي سجّلتها في الثمانينيات فرقة العاشقين، التي جابت حفلاتها العالم العربي، من فلسطين إلى الجزائر واليمن.
ورغم أنه عُرف بكونه شاعر الثورة الفلسطينية، كان لنوح إبراهيم جانب أقل جدية. في إحدى قصائده، يلعن الشيطان الذي زيّن له إهدار كامل راتبه على القمار والكونياك، وعلى راقصة ممتلئة قضت على تسع زجاجات من الويسكي في جلسة واحدة.
من الصعب أن نتخيّل إن إبراهيم كان في الوقت نفسه تلميذاً مقرباً من الزعيم التاريخي المناضل ضد الصهيونية، الشيخ عز الدين القسّام، وهو الرجل نفسه الذي حالما سمع بأن ثورة ضد البريطانيين والصهاينة قد قامت، ترك عمله في البحرين وعاد إلى فلسطين ليكون جزءاً من تلك الثورة.
عام 1937، دخل نوح إبراهيم سجن عكّا الذي كان قد غنّى لشهدائه، وقضى فيه خمسة أشهر. هناك، ذاع صيته بكتابة قصائد للأسرى وتلاوتها عليهم. قصيدة “السيد بايلي” -أبرز أعماله في تلك الفترة- صارت نشيداً وطنياً للأسرى السياسيين والأسيرات، خلال سنوات الانتداب البريطاني.
عقب إطلاق سراحه، انضم إبراهيم إلى رفاقه في الثورة، دون أن ينقطع عن كتابة الزجل، وباتت شعبيته واسعة إلى الحد الذي دفع إلى الرقابة البريطانية على الصحافة إلى منع نشر قصائده:
”وفق صلاحياتي كرقيب على الصحافة، واستناداً إلى قانون الطوارئ، أحذر، أنا أوين تويدي، من طباعة أو نشر الكتاب الذي يحتوي على قصائد نوح إبراهيم، الذي طُبع خارج فلسطين، والمعروف بـ”مجموعة أغاني نوح إبراهيم”، سواءً أطُبع أو نُشر علانية أو في الخفاء”.
لم يُكتب لشهرة نوح إبراهيم أن تدوم سوى أربع سنوات. ففي عام 1938، استشهد في أوج شهرته في معركة غير متكافئة مع البريطانيين في الجليل.لقد جسّدت وفاته روح التضحية التي مدحها في قصائده. كانت هذه الأصالة التحديد ما جعله شخصاً آسراً. فهو لم يكن مجرد شاعر، بل كان شاهداً وشهيداً.